سورة الحديد - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


قلت: وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا: {سَبَّحَ} وفي الجمعة: {يُسَبِّحُ} [الجمعة: 1] و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1]. وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله: {وَسَبِّحُوهُ} [الأحزاب: 42]، وأصله: التعدي بنفسه؛ لأنّ معنى سبَّحته: بعّدته من السوء، من: سَبَح: إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في: نصحته ونصحت له، وإما أن يراد ب {سبَّح لله}: اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.
يقول الحق جلّ جلاله: {سَبَّح لله} أي: نَزَّه اللّهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر {في السماوات والأرض} مِن الملائكة والجن والإنس والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] قيل: إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. اهـ. {وهو العزيزُ} المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، {الحكيمُ} في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
{وله مُلك السماواتِ والأرض} أي: التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي: ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى. اهـ. {يُحيي ويميت} استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي: هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، {وهو على كل شيءٍ} من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة {قدير} لا يعجزه شيء.
{وهو الأولُ} القديم قبل كل شيء، {والآخرُ} الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، {والظاهرُ} الذي ظهر بكل شيء، {والباطنُ} الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث: «اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء» قال الطيبي: فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي: الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له. اهـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. {وهو بكل شيءٍ عليم} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ.
{هو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام} من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، {ثم استوى} أي: استولى {على العرش} حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، {يعلم ما يَلِجُ في الأرض} ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأمطار، {وما يعرجُ فيها} من الملائكة والأموات والأعمال، {وهو معكم أينما كنتم} بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة. {والله بما تعملون بصير} فيُجازي كلاًّ بعمله.
{له مُلك السماوات والأرضِ} تكرير للتأكيد، وتمهيد لقوله: {وإِلى الله تُرجع الأمورُ} أي: إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور، {يُولج الليلَ في النهار} يُدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، {ويُولج النهارَ في الليل} بأن ينقص من النهار ويزيد الليل، {وهو عليم بذات الصدور} أي: بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها، كَنّى بها عن القلوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري: تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح- بالفتح- في مقام التفصيل، والمسبِّح- بالكسر- في مقام الجمع، كما ذكرنا. اهـ.
قلت: ومعنى قوله: فلك الذات سماء الصفات... إلخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول: وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالأثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو: ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو: هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو: الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو: الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل: أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال: أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر. ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري: هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز: بِمَ عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية: {هو الأول والآخر...} إلخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. اهـ.
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} قال القشيري: يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي: هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر الجنوي: أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول: إنَّ الفقيه العلامة سيدي أحمد بن مبارك لقي الرجل الصالح سيدي أحمد الصقلي، فقال له: كيف تعتقد: {وهو معكم أين ما كنتم}؟ فقال: بالذات، فقال له: أشهد أنك من العارفين. اهـ.
قلت: فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي: للعارفين في هذا مقامان: مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. اهـ. وحاصل كلامه: أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض:
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً *** ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي


يقول الحق جلّ جلاله: {آمِنوا بالله ورسوله} أي: دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو: أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، {وأَنفِقوا} أي: تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي: جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو: جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، {فالذين آمنوا} بالله ورسوله {منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير} لا يُقادر قدره.
{وما لكم لا تؤمنون بالله} هو حال، أي: أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة، {والرسولُ يدعوكم} ويُنبهكم عيله، ويُقيم لكم الحجج على ذلك، {لتؤمنوا بربكم وقد أخذ} قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر، على الإقرار بالربوبية، والتصديق بالداعي، بعد أن رَكّب فيكم العقول، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان، أو: أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، فانظروا واعتبروا وآمنوا، {إِن كنتم مؤمنين} بأخذ هذا الميثاق، أو: بموجبٍ ما، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه.
{هو الذي يُنَزِّلُ على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {آيات بيناتٍ} واضحاتٍ، يعني القرآن، {ليُخرجَكم} أي: الله تعالى، أو العبد {من الظلمات} أي: من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة، {وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم} حيث يهديكم إلى سعادة الدارين، بإرسال الرسول، وتنزيل الآيات، بعد نصب الحُجج العقلية.
ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق، بعد توبيخهم على ترك الإيمان، على ترتيب قوله: {آمِنوا} و{إنفِقوا} فقال: {وما لكم ألاَّ تُنفقوا في سبيل الله} أي: أيّ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى، وهو له حقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف؟ {ولله ميراثُ السماوات والأرض} يرث كل شيء فيهما، لا يبقى لأحد شيء من ذلك، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه {في سبيل الله} والله مُهلككم، فوارث أموالكم؟ فتقديمها لله أولى، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة. وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في{لله} لزيادة التقرير، وتربية المهابة.
ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال: {لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ} مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله: {أولئك أعظم درجة.
..} إلخ، والمراد: فتح مكة، أي: لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد لك، {أولئك} الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه»، فهم {أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا} لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، {وكُلاًّ} أي: كل واحد من الفريقين {وَعَدَ اللّهُ الحسنى} وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي: وعده الله الحسنى، {والله بما تعملون خبير} فيُجازيكم على قدر أعمالكم.
{من ذا الذي يُقْرِضُ اللّهَ قرضاً حسناً} هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي: مَن ذا الذي يُنفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر، فإنه كمن يُقرضه. وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، {فيُضاعِفه له} أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله، {وله أجرٌ كريمٌ} وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة! ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.
الإشارة: أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقيا، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير: سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي: تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. {من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً}، قال القشيري: هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً». اهـ. فيضاعفه له بالترفي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.


يقول الحق جلّ جلاله: واذكر {يومَ ترى} أو: لهم أجر كبير {يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم} وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى {بين أيديهم وبأَيمانهم} وقيل: هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهك كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة.
قلت: ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن: يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع: الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي: العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول: جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. اهـ. قلت: الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.
وقال مقاتل: يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين {من بين أيديهم وعن إيمانهم} كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.
وتقول لهم الملائكة: {بُشراكم اليومَ جناتٌ} أي: دخول جنات؛ لأنّ البشارة تقع بالإجداث دون الجُثث، {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}. {يومَ} بدل من {يوم ترى} {يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انُظرونا} أي: انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون في ظلمة، فيقولون للمؤمنين: قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم. وقرأ حمزة: {أَنظِرونا}، من الإنظار، وهو التأخير، أي: أَمهِلوا علينا. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني، أي: انتظرني، فتتفق القراءتان. وقيل: من النظر، أي: التفتوا إلينا وأَبْصِرونا {نَقتبس مِن نوركم} لأنَّ نورهم بين أيديهم، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة: {ارجعوا وراءكم} أي: إلى الموقف، إلى حيث أُعطينا هذا النور {فالتمِسوا نوراً} فإنّا هناك اقتبسناه، أو: التفتوا وراءكم، فيلتفتون فيُحال بينهم، {فضُرِبَ} حينئذ {بينهم} بين الفريقين {بسُورٍ} بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار، {له باب} يلي المنافقين، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة، فيزدادون حسرة، {باطِنُه} أي: باطن ذلك السور، وهو الجهة التي تلي المؤمنين {فيه الرحمةُ وظاهرهُ} الذي يلي المنافقين {مِن قِبَلِه العذابُ} أي: العذاب حاصل من قِبَلِه.
فالعذاب: مبتدأ، و{مِن قِبَلِه}: خبر، أي: ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة، فيقابله العذاب، فهم بين النار والسور.
{يُنادونهم} أي: ينادي المنافقون المؤمنين: {ألم نكن معكم} في الدنيا؟ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر، {قالوا} أي: المؤمنون: {بلى} كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسَكم} أي: محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر، {وتربصتم} بالمؤمنين الدوائر، {وارتبتم} في أمر الدين {وغرتكم الأمانيُّ} الفارغة، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام، أو: طول الأمل وامتداد الأعمار {حتى جاء أمرُ الله}؛ الموت، {وغرَّكم بالله} الكريم {الغَرُورُ} أي: الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم، أو: بأنه لا بعث ولا حساب.
{فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ} فداء {ولا من الذين كفروا} جهراً، {مأواكم النارُ} أي: مرجعكم، لا تبرحون عنها أبداً {هي مولاكم} أي: المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه، أو: هي أولى بكم، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، أو: ناصركم، على طريق:
تحيةٌ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ ***
فيكون تهكُّماً بهم، {وبئس المصيرُ} أي: النار.
الإشارة: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول، يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم: بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري: قوله تعالى: {يسعى نورهم...} الخ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم: {المؤمن ينظر بنور الله}، وقال تعالى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. اهـ. قال الورتجبي: ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا: انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل: ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فاتلمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم: ألم نكن معكم في عالم الحس؟ وهو عالم الأشباح، قالوا: بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني: المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي: حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.

1 | 2 | 3